مرحلة ما بعد نتنياهو- خيارات الصهيونية الدينية ومستقبل اليمين المتطرف في إسرائيل

المؤلف: د. عبد الله معروف10.23.2025
مرحلة ما بعد نتنياهو- خيارات الصهيونية الدينية ومستقبل اليمين المتطرف في إسرائيل

لم يعد خافيًا على أحد أن إصرار بنيامين نتنياهو الحثيث وسعيه الدؤوب لإطالة أمد الحرب في غزة، لا يمت بصلة للأسرى الإسرائيليين أو القضاء التام على حركة حماس، الذي أقرّ المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بنفسه باستحالته. فبالنسبة لرئيس الوزراء الإسرائيلي، لم تعد هناك بدائل أخرى للبقاء جاثمًا على سدة الحكم، سوى المضي قدمًا في الحرب إلى أجل غير مسمى، دون أي بادرة انفراج في الأفق. ويحظى في ذلك بدعم مطلق من تيار الصهيونية الدينية، الذي يمثل أقصى اليمين المتطرف في إسرائيل، بقيادة الثنائي المتشدد: سموتريتش وبن غفير.

لقد أصبح مصير نتنياهو وتيار الصهيونية الدينية المتطرف متشابكًا بشكل وثيق للغاية. وهذا الترابط الوثيق يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤل محوري يتعلق بمستقبل اليمين المتطرف وتيار الصهيونية الدينية في إسرائيل، وما هي الخيارات المتاحة أمامه في حال تمكن خصوم نتنياهو من الإطاحة به من سدة الحكم؟

حبل المشنقة السياسية يلتف حول عنق نتنياهو يومًا بعد يوم، مع تزايد أعدائه في الداخل والخارج على حد سواء، ولا أدل على ذلك من التداعيات الكارثية لظهوره الأول على القناة الرابعة عشرة الإسرائيلية، حيث بذل قصارى جهده للتنصل من مبادرة وقف إطلاق النار الأميركية-الإسرائيلية.

ولكن بعد أقل من أربع وعشرين ساعة فقط، سرعان ما عاد مكرهًا ليُعلن التزامه الكامل بالمبادرة، مما كشف عن تخبط وارتباك واضحين لديه، وذلك بسبب ردود الفعل الغاضبة والواسعة النطاق ضد تصريحاته المتلفزة ومحاولاته المعتادة للتذاكي والمراوغة. ولكنه اصطدم هذه المرة بواقع مغاير تمامًا لما اعتاده من الداخل الإسرائيلي وحلفائه في الإدارة الأميركية على حد سواء. فاتساع رقعة الاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي بعد انسحاب غانتس من حكومة نتنياهو، واضطراره إلى إلغاء مجلس الحرب، ينذر بمستقبل قاتم له، ويوحي بقرب نهاية حقبة نتنياهو السياسية.

ولعل هذه الرغبة الجامحة في البقاء في السلطة، مدفوعة بالخوف الشديد من المستقبل المجهول، هي الدافع الحقيقي وراء سعي نتنياهو المحموم لقرع طبول الحرب مع لبنان، واستعداده لتوسيع نطاق المواجهة في الجبهة الشمالية بدلًا من احتوائها. ويحظى في ذلك بدعم لا محدود من اليمين الإسرائيلي المتطرف، مصحوبًا بتصاعد كبير في التضييقات والقيود المفروضة على الضفة الغربية والقدس، مما يعطي إشارات قوية بإمكانية الوصول إلى نقطة اللاعودة والمواجهة الشاملة فيها أيضًا، على عكس رغبة الجيش الإسرائيلي على أرض الواقع. وقد تفاقم الخلاف بين الحكومة والجيش بشكل ملحوظ مؤخرًا، وبدأت قيادة الجيش تعلن رأيها بصراحة ووضوح بشأن توجهات نتنياهو وحلفائه، وهذا أمر لم يسبق له مثيل.

كل هذه المعطيات والحقائق الماثلة أمامنا تقودنا إلى نتيجة حتمية واحدة: قرب سقوط نتنياهو الوشيك. فالجيش الإسرائيلي هو الدولة بأكملها، لأن إسرائيل دولة أسسها الجيش في الأساس، أي أنها عبارة عن جيش له دولة. وعلى الرغم من محاولات نتنياهو اليائسة قبل أيام لنفي هذه الحقيقة الراسخة حول طبيعة العلاقة العضوية بين الجيش والدولة، فإن مواجهة نتنياهو الشرسة مع الجيش المدعوم بقوة من الإرادة الأميركية والدولية، إلى جانب عائلات الأسرى وأحزاب المعارضة المتعددة، لا يُتصور أن تنتهي لصالحه بأي حال من الأحوال، شريطة أن يتخلى عنه أحد حلفائه الرئيسيين في الأحزاب الحريدية.

فالأحزاب الحريدية لا يربطها بنتنياهو سوى دعمه المطلق لها في رفض التجنيد الإجباري لليهود المتدينين الحريديم، مما يساهم بشكل كبير في توسيع الفجوة العميقة بين نتنياهو والجيش، الذي بات يصرّح علنًا بحاجته الماسة لتجنيد هؤلاء، مدعومًا في ذلك بالشق العلماني من المجتمع الإسرائيلي، الذي يمثل أكثر من نصف الدولة. إذًا، سقوط نتنياهو قريبًا من السلطة هو مسألة وقت لا أكثر، إذا بقيت الأوضاع على ما هي عليه الآن، ولم تحدث مفاجآت كبرى وغير متوقعة في المنطقة تعيد توحيد المجتمع الإسرائيلي تحت سلطة نتنياهو.

وبما أن سقوط نتنياهو أصبح قاب قوسين أو أدنى ومسألة وقت لا يختلف عليها اثنان، فإن اليمين المتطرف الإسرائيلي، وعلى رأسه تيار الصهيونية الدينية، بات يبحث جديًا ومكثفًا عن الخيارات المتاحة أمامه في حال سقوط الحكومة. وتشير أغلب استطلاعات الرأي العام إلى أن حزب الصهيونية الدينية، بزعامة سموتريتش، وحزب العظمة اليهودية، بزعامة بن غفير – اللذين يشكلان معًا تيار الصهيونية الدينية المتطرف – لن يتمكنا على الأرجح من تجاوز العتبة الانتخابية ودخول الكنيست في حال التوجه إلى انتخابات مبكرة، وذلك في ظل خيبة الأمل والإحباط الواسعين النطاق من الحرب الحالية وفشلها الذريع.

ويبدو أن سموتريتش يحسب ألف حساب لهذه اللحظة الفارقة، كما اتضح جليًا في التسريبات الأخيرة له، حيث إنه عمل بدأب على تغيير الأوضاع على أرض الواقع في الضفة الغربية؛ لأنه يدرك تمام الإدراك أنه في صراع مفتوح مع الجيش وأجهزة الأمن والمستشار القضائي للحكومة. ولذلك، قام بترسيم دقيق لمواضع انتشار الشرطة الإسرائيلية، ومواضع البناء الفلسطيني والشوارع، وعمليات الاستيلاء المستقبلي على الأراضي في الضفة الغربية، وثبت بالتالي تطبيقات فكرته الجيوسياسية الإستراتيجية للسيطرة المطلقة على الأرض في الضفة الغربية مستقبلًا.

وجميع هذه الإجراءات والتدابير لا ترتبط بنوع أو طبيعة وزير الدفاع أو أي وزير آخر؛ لأن العمل الإداري ثابت ومستقر، ومسألة نقل المسؤولية القانونية محددة وواضحة أيضًا، وبالتالي رتب لإجراء التسويات القانونية اللازمة للبؤر الاستيطانية بأكملها دون الحاجة لتدخل الحكومة الإسرائيلية في المستقبل. واللافت للنظر أن سموتريتش قال في تسريبه المسرب: "حتى لو سقطت الحكومة غدًا وحتى لو اعتزلت منصبي فالقرار يظل ثابتًا ونافذًا"، مما يبين بوضوح أن تيار الصهيونية الدينية يرتب أموره ويضع الخطط المحكمة لمرحلة ما بعد نتنياهو.

وأمام تيار الصهيونية الدينية عدة خيارات وسيناريوهات بديلة يبدو أن سموتريتش وبن غفير يعملان بدأب على تحقيقها في حال سقوط نتنياهو. وقد حدد الرجلان منطقة نفوذ كل منهما في هذه المرحلة الحرجة، وبدأ كل منهما يعمل على تقوية وتعزيز وجوده فيها. فسموتريتش يتمتع بالنفوذ الأكبر في الضفة الغربية ومستوطناتها، بينما يمتلك بن غفير نفوذه الخاص في القدس الشرقية المحتلة.

والخيارات التي يمكن لكل منهما العمل عليها تتمحور حول عدة سيناريوهات محتملة:

  • السيناريو الأول: هو تحول قائدي هذا التيار إلى دولة عميقة متغلغلة في الضفة الغربية والقدس، ويمارسان نفوذهما الخاص الذي رسخاه وبنياه في هذه المرحلة، بما يعطل أي محاولات لإجراء تغييرات في الضفة والقدس من قبل أي حكومة إسرائيلية قادمة.
  • السيناريو الثاني: هو إعلان "سرقة الدولة"، على غرار ما حدث في الولايات المتحدة في السادس من يناير/كانون الثاني 2021م، ومحاولة السيطرة على مقاليد الدولة بالقوة تحت زعم التخوف من "سرقة الدولة" من قبل اليسار الإسرائيلي العلماني. ويمكن أن يكون السلاح الأكبر بيد بن غفير هو تحشيد وتعبئة اليهود المتدينين المتركزين بأعداد كبيرة في القدس ضد التيار العلماني المناوئ لهم في الدولة، تحت ذريعة الحفاظ على مكتسباتهم ومنع تمرير قانون التجنيد الإجباري بحقهم.
  • السيناريو الثالث: هو أن يكون سقوط نتنياهو بمثابة ضربة قاصمة وإضعاف شديد لتيار الصهيونية الدينية، ويعتبر بمثابة النهاية المحتومة له، مما يؤدي إلى خلافات داخلية عميقة بين زعمائه، وإلى تفتته وتهشمه وانقسامه على نفسه. هذا السيناريو تعوّل عليه القوى الغربية الخارجية وأحزاب المعارضة الداخلية في إسرائيل في حال سقوط حكومة نتنياهو. ولكنه ليس السيناريو الأوفر حظًا بالنظر إلى تراكم القوة المجتمعية والترسانة الهائلة من الأسلحة التي بات أتباع تيار الصهيونية الدينية يمتلكونها برعاية مباشرة من سموتريتش وبن غفير.
  • وأخيرًا، يبقى دائمًا السيناريو الحاضر الغائب الذي يمكن أن يقلب الطاولة رأسًا على عقب على جميع التيارات الإسرائيلية؛ يمينِها ويسارِها على حد سواء، وهو احتمال الانفجار الشعبي العارم في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة. هذا السيناريو قد يراه البعض اليوم مستحيل التحقق على أرض الواقع، ولكنه يمكن أن يقلب الأمور ويغير مسارها بشكل دراماتيكي غير مسبوق. فالضفة والقدس ليستا مثل غزة، لا من الناحية الجغرافية ولا من الناحية السياسية، ومن المؤكد أن انفجارًا شعبيًا فيهما لن يكون نزهة ممتعة للإسرائيليين من أي تيار سياسي كانوا.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة